في يناير (كانون ثاني) 1952، أحرق مجهولون مدينة القاهرة، مما أدى إلى استقالة وزارة الوفد ذات الشعبية الجماهيرية الكبيرة، ثم قيام مجموعة الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر بقلب نظام الحكم وإبعاد الملك فاروق خارج البلاد في 23 يوليو (تموز) من العام نفسه. ورغم مرور 59 عاما على هذه الجريمة، فلا يزال الفاعل مجهولا. كانت بعض الإشاعات وجهت أصابع الاتهام إلى الملك فاروق والإنجليز، وحتى أحمد حسين رئيس الحزب الاشتراكي وجماعة الإخوان المسلمين، بتدبير الحريق، إلا أن تحقيقات رجال الأمن - سواء قبل 23 يوليو أو بعده - لم تؤكد أيا من هذه الإشاعات. ولو كانت هناك أدلة تدين أيا من هذه الأطراف لما ترددت حكومة الثورة في الإعلان عنها، لكنها لم تفعل، لماذا؟
في مساء 8 أكتوبر (تشرين الأول) 1951، أعلن مصطفى النحاس باشا، رئيس الوزراء، إلغاء معاهدة 1936 بين مصر وبريطانيا، ووضعت حكومته قرارها موضع التنفيذ، فألغت جميع الإعفاءات التي كانت ممنوحة للسلطات العسكرية البريطانية بمقتضى المعاهدة، والتي تشمل الرسوم الجمركية على المهمات والأسلحة والعتاد ومواد التموين والرسوم المستحقة على مرور سفن القوات البريطانية بقناة السويس. كما شجعت حكومة الوفد الحركات الشعبية في تنظيم المقاومة ضد القوات البريطانية الموجودة بمنطقة القناة.
وفي يناير 1952، كانت عمليات المجموعات الفدائية ضد القوات البريطانية قد ازدادت، فقامت القوات البريطانية بمحاصرة قسم البوليس الموجود بمدينة الإسماعيلية، وطلبت من قوات البوليس تسليم سلاحهم والانسحاب من المنطقة إلى مدينة القاهرة. لكن وزير الداخلية المصري - فؤاد سراج الدين - أصدر أوامره بعدم قبول الإنذار والمقاومة حتى آخر طلقة، فقاوم رجال البوليس هجمات الجيش البريطاني، وسقط منهم خمسون قتيلا وما يزيد على سبعين جريحا.
عندما شاع خبر هذه المعركة في القاهرة عمت الشعب المصري كله موجة من الغضب، وفي الساعة السادسة من صباح 26 يناير قام جنود بلوكات نظام الأقاليم بتمرد في ثكناتهم بمنطقة العباسية، وامتنعوا عن القيام بمهامهم الخاصة بحفظ النظام. وعند الظهر تجمعت مظاهرات طلاب المدارس الثانوية في ميدان الأوبرا بوسط القاهرة، وكنت أنا واحدا منهم. فقد اتصل بنا في الصباح - ونحن في مدرسة الخديوية الثانوية - من أبلغونا بضرورة الخروج في مظاهرة، حيث يتجمع الطلاب في ميدان الأوبرا قبل التوجه إلى جامعة القاهرة، للاحتجاج على ما جرى بالإسماعيلية. سرنا في درب الجماميز وشارع محمد علي، حتى وصلنا إلى ميدان العتبة ثم ميدان الأوبرا. عندئذ فوجئنا ببعض الرجال في الثلاثينات من العمر، جاءوا بسيارة نقل مفتوحة أخرجوا منها صفائح من البنزين أفرغوه في مبنى كازينو بديعة وأشعلوا فيه النيران. وسرعان ما انتقلوا بسيارتهم إلى الجانب الآخر من الميدان، حيث أشعلوا النيران في فندق شبرد. بعد ذلك انفضت المظاهرة وسادت الفوضى، وانضم الغوغاء إلى المسيرة، وصاروا يحطمون واجهات المحلات العامة، ويسرقون ما بها. وفي ذلك اليوم المشؤوم التهمت النيران الكثير من الأماكن العامة في وسط القاهرة، من فنادق وسينمات ومحلات تجارية ومكاتب، كما مات الكثيرون وجرح آخرون.
كانت تلك لحظة نادرة في تاريخ الشعب المصري منذ ثورة 1919، تحدت فيها الحكومة الوفدية سلطات الاحتلال البريطاني، فقامت بإلغاء معاهدة 1936، وحاولت إجبار بريطانيا على قبول إجلاء قواتها الموجودة في مصر. فجاء حريق القاهرة ليضع نهاية لكل هذا، حيث أعلنت الأحكام العرفية، وأقيلت الحكومة، وبعد بضعة أشهر قام الضباط الأحرار بقلب نظام الحكم في 23 يوليو. ولنا أن نتساءل: من هو المستفيد من حريق القاهرة الذي أدى إلى سقوط حكومة الوفد وإفشال مشروعها القومي؟
كان الضباط الأحرار قد حددوا موعدا لثورتهم بعد ثلاث سنوات في 1955، لكنهم بعد الحريق قدموا الموعد، وجعلوه بعد ستة أشهر فقط. فلماذا فقد الضباط صبرهم وقرروا الإسراع بقلب النظام، قبل موعده بثلاث سنوات؟ هل كانت لتنظيم الضباط الأحرار علاقة بحريق القاهرة؟ هل أدرك عبد الناصر أن نجاح الحكومة الوفدية في تحقيق الجلاء سوف يضيع عليه فرصة الانقلاب على النظام؟ ومن الملاحظ أن أنصار ثورة يوليو هم أول من صار ينفي وجود فاعل في جريمة حرق القاهرة، حيث ينسبونها عادة إلى المظاهرات والغوغاء. فقد اعتبر حسنين هيكل - الذي كان مقربا من جمال عبد الناصر - الفاعل في هذه الجريمة مجهولا. وفي برنامج «مع هيكل» في قناة الجزيرة، الذي أذيع في 12 يناير 2006، قال هيكل: «أنا.. لغاية هذه اللحظة مش معتقد أن عملية حريق القاهرة بدأت بتدبير مقصود». لماذا يصر هيكل على إنكار وجود فاعل لجريمة حرق القاهرة؟!
وقد تحدث صلاح شادي - الذي كان عضوا في جماعة الإخوان المسلمين وصديقا لجمال عبد الناصر ومحل سره - عن حالة الاضطراب التي كان فيها عبد الناصر أثناء حريق القاهرة، وخوفه من مداهمة رجال البوليس لمواقعه. وذكر صلاح أن جمال اتصل به تليفونيا ظهر 26 يناير، في الوقت ذاته الذي بدأت فيه الحرائق تشتعل في ميدان الأوبرا، وطلب منه الذهاب للقائه في منزله. وعندما وصل صلاح إلى منزل جمال، وجده في حالة من الاضطراب لم يعهدها فيه من قبل. وطلب منه جمال نقل بعض الأسلحة والذخائر التي كان يخفيها لخوفه من أن تدهم الشرطة مواقعه بسبب حريق القاهرة، وتعثر على الأسلحة المخبأة (الموقع الإلكتروني «إخوان أون لاين»، بتاريخ 14 أغسطس/ آب 2008).
وفي لقاء مع اللواء جمال حماد، الذي كان أحد كبار الضباط الأحرار، أذاعته قناة «الجزيرة» في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) 2008، قال له أحمد منصور: «هناك علامات استفهام كثيرة طالما ذكرت جمال عبد الناصر، حول دور أو علاقة لجمال عبد الناصر في حريق القاهرة». وسأله منصور عن العلاقة بين حريق القاهرة وقرار الضباط الأحرار بالإسراع في تنفيذ خطة الانقلاب الذي كانوا يعدون له، فرد جمال حماد قائلا: «يوم 26 يناير ده، يعني (هو) اللي أيقظنا انه لازم نعجل بالثورة.. كان أول تحديد ان الثورة تقوم في 1955.. (لكن) بعد حريق القاهرة، بعدين، حددناه في 1952».
ملحوظه ...
أي حد عاوز يساعد المرضى بالادويه يتواصل على تويتر معا صيدلية تويتر أو على الفيسبوك معا صيدلية فيسبوك
ملحوظه ...
أي حد عاوز يساعد المرضى بالادويه يتواصل على تويتر معا صيدلية تويتر أو على الفيسبوك معا صيدلية فيسبوك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق